حمولة ...

«مسلم كان يستطيع في مثل هذه الأرض الشاسعة أن يذهب من نقطة إلى نقطة أخرى. وأينما كان يذهب طوال تلك المسافة كان يشاهد ناساً يعبدون ربّه و يصلّون إلى قبلته وعاداتهم و وضع حياتهم مثل وضعه تقريباً. في تلك الأرض الشاسعة كان هناك قانون يعتبر المسلمين بمثابة مواطنين من نفس الوطن. فلا أحد كان باستطاعته سلب حريته أو الإعتداء على حقوقه. عندما بدأ ناصر خسرو في القرن الخامس الهجري سياحته و انتهت تلك الرحلة الطويلة والبعيدة، لم يواجه أبداً تلك الصعوبات التي كان يواجهها ألمانيّ ما في القرن 12.»

إشارة: السطور التالية مقالة للمرحوم الدكتور سيد جعفر شهيدي قام بنشرها في مجلة يغما عام 1350. إنه يتناول في هذا المقال التضامن الواسع للمسلمين في فترة أوج الحضارة الإسلامية على الرغم من الإختلافات الإقليمية والعرقية الكثيرة:  

ليس المقصود من هذا العنوان أن يتم دراسة تضامن المسلمين من حيث الإشتراك في الواجبات الفردية  (يعني التكاليف التي تتعلق بجهة التبرير و الإلتزام والإهتمام بعالم ماوراء الطبيعة، ومن جهة القيام بعمل الناس المكلفين بالقيام بتلك الواجبات). في هذا البحث لن يتم التطرق مطلقاً للجوانب التشريعية النظرية و إذا تم التطرق لها في بعض جوانب البحث من باب الإقتضاء فإن ذلك الوجه تبعي وليس أساسي. في هذا البحث نريد أن نتخيل في عقلنا آفاق بيئة واسعة كان يعيش فيها أكثر من نصف مليار مسلم، ناس كانوا من أعراق مختلفة، ناس مختلفون في لون بشرتهم، هياكلهم، لياقتهم البدنية وحتى عاداتهم و سياساتهم العائلية و في بعض المجالات لم تكن سياستهم الإجتماعية متناغمة، ولكن من جانب آخر كانت الوحدة بكل ما تعنيه تحكم تلك الجماعات الكثيرة. وحدة من حيث نوع التفكير في العالم و الناس الذين يعيشون في ذلك العالم، وحدة تفرض عليهم جميعاً حماية حقوق بعضهم البعض والإحترام المتبادل فيما بينهم. فكما يحترم الإنسان في مشرق العالم حقوق إنسان في مغربه فكأنه احترم حقوق نفسه و شعبه.

إذا نظرت إلى خريطة الأراضي الإسلامية في العالم القديم- وتلك الخريطة اليوم لا تختلف عن الماضي، لأننا لا ننظر إليها من زاوية سياسية ليؤدي تغيير الحدود إلى تعطيل الوحدة، بل ننطر إليها من بحيرة الأفكار والمعتقدات. لذلك فإنني أرجوكم أن تنطروا مرة أخرى إلى تلك الخريطة- ستشاهدون أمامكم عالم كبير يمتد من جهة الشرق والغرب لآسيا الوسطى حتى محاذاة المحيط الأطلسي و من الشمال إلى الجنوب مما يلي البحر الأسود و جبال القوقاز حتى المحيط الهندي و أقصى نقاط أفريقيا الواسعة، هذه الأرض الواسعة بسبب حركتها و جهودها وثقافتها المتقدمة تستحق أن يطلق عليها اسم العالم القديم. مع كل الإختلاف والمعالم الجغرافية من صعود و هبوط، بكل ناسها من بيض و سود وصفر و قصيري القامة وطويلي القامة، مع أراضيها التي تتكون من مناطق مليئة بالثلوج و رمال محرقة و صحارى جافة و غابات كثيفة كانت تتمتع بمثل تلك الوحدة التي لا يذكر لها مثيل في تاريخ العالم القديم و الحديث.

أليس مثيراً للدهشة أن ينطلق شخص من جانب جبال هندوكش و يتقدم إلى قلب إسبانيا وهذه المسافة الطويلة يقطعها بواسطة النقل الوحيدة في تلك الأيام وهي الجمل أو الحمار. و في كل أرض كان يصلها يشاهد أناساً يفكرون مثله، لديهم دينه، يعبدون ربّه، ومثله يؤمنون بالامانة و المحافظة على حدود بعضهم البعض.

أليس عجيباً أن عالماً في مثل تلك الأرض الواسعة يرى في كل مدينة يصل إليها كرسي درس لنفسه ويضع قدمه كطالب في أية مدرسة، فالمكان والطعام و أسباب الراحة كلها مهيأة له. لا أحد يطلب منه بطاقة شخصية ولا لون بشرته يعطيه أفضلية أو سبباً لنقده ولومه. وهل التضامن غير هذا؟ وأي تضامن يمكن أن يخلق مثل هذا الأثر الهام في الخارج؟  أحد المستشرقين الألمان الذي سمع معظم القرّاء باسمه «آدم متز» ألّف كتاباً حول الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. كتاب مفصّل تُرجم إلى عدة لغات. هذا الكتاب مفيد جدا خاصة للطلاب الذين يهتمون بعلم اجتماع الإسلام و إيران فإن مطالعته أمر ضروري. كتب المؤلف في فصل من كتابه ما يلي:

«مسلم كان يستطيع في مثل هذه الأرض الشاسعة أن يذهب من نقطة إلى نقطة أخرى. وأينما كان يذهب  طوال تلك المسافة كان يشاهد ناساً يعبدون ربّه و يصلّون إلى قبلته وعاداتهم و وضع حياتهم مثل وضعه تقريباً. في تلك الأرض الشاسعة كان هناك قانون يعتبر المسلمين بمثابة مواطنين من نفس الوطن. فلا أحد كان باستطاعته سلب حريته أو الإعتداء على حقوقه. عندما بدأ ناصر خسرو في القرن الخامس الهجري سياحته و انتهت تلك الرحلة الطويلة والبعيدة، لم يواجه أبداً تلك الصعوبات التي كان يواجهها ألمانيّ ما في القرن 12.» (1)

المثير أن تلك الوحدة التي كانت موجودة من اجل تطبيق هذه الحضارة و الإستفادة منها كانت تشاهد بشكل مماثل في النواة المركزية وأساس تلك الحضارة أيضاً. الأوضح هو أن هذه الحضارة الواسعة لم يوجدها شعب بعينه أو عرق خاص، بل أوجدتها شعوب مختلفة بثقافات متنوعة و مزدهرة و متطورة للغاية قد قبلت بالأصل الاول- أصل التوحيد و التسليم دون قيد و شرط أمام القدرة الأزلية التي لا تنتهي- ثم قاموا بالبناء على أصل آخر هو الحياة الممتزجة بالسلام و التعاون في كافة النواحي من اجل تحقيق هدف واحد هو تمتع العالم بالعدالة الإجتماعية. من البديهي أن مساهمة الشعوب في تأسيس هذه الحضارة تختلف بالنسبة لثقافة تلك الشعوب، فكما أنه يجب إعطاء إيران بسبب ثقافتها المتقدمة و مصر أو بقية الدول الأخرى بسبب سجلها و تاريخها في الحضارة حصة أكبر، إلا أنه يجب أن لا ننسى أننا نحن من نقوم بتصنيف مثل هذه الحضارة، لكن الشخص الذي يتتبّع تاريخ الحضارة الإسلامية سيرى أن علماء هذه البلاد لم يقولوا أبداً بأفضليتهم أو حق تقدّمهم على الآخرين، و باعتقادهم بالأخوّة و المساواة تجاه القانون الديني فقد أوكلوا أجرهم لربهم الذي يقول: إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم.

إن نتيجة هذه الجهود الجماعية و الشاملة خلق أجواء مناسبة يستطيع فيها كل شخص استعمال مواهبه و أن يضع نتيجة سعيه في سبيل استفادة الآخرين. إن نتيجة حصولك على فرصة لمطالعة الكتب الجغرافية للقرن الرابع و الخامس الإسلامي ستجعلك ترى أن أصغر مدينة أو حتى قرية لم يظهر منها عالم أو عالمين. بالطبع لا أقصد علم الفقه و أصول العقائد الدينية على الرغم من أن هذين العلمين يحتلان الرتبة الأولى بسبب شرف الموضوع، إلا أن الفروع الأخرى من طب، صيدلة، هندسة و حتى تجارة و تربية المواشي وتربية الطيور لها أهميتها أيضاً.

هنا لا بدّ من التذكير بنقطة أخرى و هي أن التدقيق في تاريخ هذه الشعوب يظهر أنه في مثل هذا العالم الواسع فإن لكلّ من الشعوب و الحكومات طريقة خاصة و باستثناء الحالات الإستثنائية و الأوضاع الإضطرارية فإنها تضع المهمة العسكرية بعهدة أشخاص، أما في بقية الحالات فقد كان الشعب منهمك بعمله و الحكومات بمساعيها، و بعبارة أخرى فإن العلم والسياسة لم يكونا يتدخلان في عمل بعضهما و لم يكن أي من القوتين تسعى لاستغلال القوة الاخرى أبداً.

من المستحسن هنا أن نعود لبعض الوثائق التاريخية:

كتب ابن خلكان عن ابن الفرضي مؤلف تاريخ الأندلس:

أبو غالب اللغوي القرطبي المتوفي عام 436ه.ق لأنه ألّف كتابه في علم اللغة أرسل إليه أبو الجيش مجاهد بن عبدالله العامري ألف دينار و فرس و ثوب له و رجاه أن يضيف على كتابه عبارة قصيرة هي «هذا الكتاب ألّفه أبو غالب لأبو الجيش.» فقال أبو غالب كيف يمكن أن أكتب في مقدمة كتاب كتبته من أجل مصلحة الناس اسم آخر ثم أعاد تلك الهدايا. عندما وصل الخبر إلى مجاهد أكبرَ أَنَفَته و ضاعف ما كان أرسله له.(2) و كذلك  نقرأ في تاريخ البيهقي أنه عندما وصل طغرل إلى نيشابور ذهب إليه القاضي صاعد و قال...إنني وفّيتك حقك بمجيئي وأن لا آتي فلأنني مشغول بمطالعة العلم ولا أتطرق إلى عمل آخر سواه...فقال طغرل لن نتعب القاضي بأكثر من ذلك...(3)

حتى في أصعب الظروف و في أحلك الأوضاع كانت الطبقة الفاضلة من الشعب تقوم بجهودها العلمية وكانوا يضعون نتيجة أبحاث العلماء بين يدي الشعوب. إذا كان محمود الغزنوي يدعو أبو ريحان البيروني إلى قصره فبسبب أنه كان زينة لجهاز حكمه و ليس وسيلة لتطبيق أفكاره، و كذلك بعد مضي أكثر من عشرة قرون فمازال في بعض الدول الإسلامية و من بينها دولتنا تقوم الحكومات و الشعوب بتكريم هذا العالم بسبب علمه و احترام علمه و مازال يحظى بالإحترام بسبب علمه.

كثيراً ما كان يحصل أن قطعة من المملكة خلال فترة نصف قرن تنتقل من يد إلى أخرى مرتين أو أكثر لتصل من يد ملك أو حاكم إلى ملك أو حاكم آخر، لكن في كل تلك الصراعات السياسية لم تكن الشعوب لتقطع علاقتها المعنوية و الفكرية ببعضها البعض كما كانت الحكومات و العلماء كل منها يعرف حدوده و يحترمها.

في تلك السنين نشبت في شرق إيران حروب دموية بين السلطان محمود الغزنوي و بقايا آل سامان و في العصر الذي كان فيه غلمان الترك في بغداد ينزعون خليفة كل فترة و يعينون بدلا منه خليفة آخر لم يغفل العلماء ولو للحظة عن واجباتهم و كان يتم تبادل القضايا العلمية بين سمرقند و بغداد أو بين بغداد و طنجة و المثير أن الأسئلة أحياناً كانت تصل من بلخ يعني من نقطة في شرق هذه الأرض الواسعة إلى قرطبة يعني نقطة في غرب تلك الأرض وبعد فترة ولم يكن يمض نصف عام حتى يرسلون أجوبتها بشكل كتاب مدوّن إلى السائل. أظن أن عرض مثال و شرحه كافي ولكن اسمحوا لي قبل أن النتيجة أن أذكر قصة قصيرة في هذا المجال و أن أستعرض مثالاً بارزاً عن تلك الحضارة الواسعة، قصة قد تكونوا جميعكم سمعتم بها. لا أعلم إلى أي مدى لهذه القصة قيمة من الناحية التاريخية، فحالها مثل بقية القصص، لكن إذا كان أصل القصة بعيد عن الحقيقة فإن الشيء الذي دارت حوله القصة هو حقيقة تاريخية. يقولون:

طلب ملّاحوا نهر جيحون الأجرة من نظام الملك فقام بتحويلهم إلى أنطاكية الشام. اشتكى الملّاحون للملك فقالوا: كيف نقطع كل هذه المسافة لأجل مبلغ قليل. فسأل السلطان نظام الملك عن حكمة هذا العمل فقال أردت ان يعرف من سيتولون الحكم بعدنا إلى اين يمتد نطاق ملكنا. هذا الجواب جدير بالإهتمام لكن الأكثر إثارة للدهشة هو بقية القصة. قال الملك جيد جداً لكن ما الذي يجب على هؤلاء الناس فعله و كيف يوصلون أنفسهم من خراسان إلى الشام. فقال نظام الملك ليس هناك حاجة ليتحملوا مثل تلك المشقة، ما عليهم إلا أن يخفضوا عشر نصف كمبيالتهم و يأخذون مبلغها من سوق مدينتهم. إلى هذه الدرجة بلغ نمو العلاقات التجارية والإقتصادية في عصر لم يكن فيه موجود لا بنك ولا تلغراف ولا هاتف، و وسيلة التواصل التجاري الوحيدة التي كانت موجودة هي الحمار والجمل. الآن حريّ بكم أن تسألوا أي قوة خلقت ذلك التضامن بين الشرق والغرب و أية قوة كانت تضمن مثل تلك التجارة الواسعة. لم أبحث أبداً في هذا الموضوع لكنّ نتائج الأبحاث المختلفة و قياس القيم يؤدي إلى شيئين حيث أن واحدة منهما ضرورية لوجود الأخرى. الأولى هي الإيمان و الثانية تقديم المصلحة الإجتماعية على المصلحة الفردية. ومن المستحسن أيضاً أن نأتي هنا بشاهد آخر من التاريخ. موضوع ورد في كتاب جغرافي: كتاب فارسنامه لابن البلخي. كتب المؤلف يصف مدينة كازرون:

كانت الأيام الاولى بحيث أن الباعة في كازرون قد أغلقوا الأبواب فيأتي الغرباء وكذلك يشترون من المحلات المغلقة دون ان يفتحوها، لأنهم كانوا يثقون بالباعة و إلى أي مدينة كانوا يذهبون فإن تعاملهم كان كذلك مع الباعة، ففي كل الأوقات كانت محلات كازروني مفتوحة تعرض بضاعتها.(4)

إن الشيء الذي يثير الدهشة هو أنه خلال 9 قرون وقعت أحداث كبيرة في هذه البلاد المترامية الاطراف و بذلوا جهوداً كبيرة ليزلزلوا أساس تلك الوحدة. لكن لأن تلك الوحدة كانت نابعة من إيمان الناس و كانت ضمن فكر و ىم الشعوب فإن آثارها ماتزال ظاهرة حتى الآن.

في الأيام الماضية كان لي نصيب في المشاركة في المؤتمر الإسلامي في القاهرة كممثل لإيران. شارك في ذلك المؤتمر أكثر من مائة ممثل عن ثلاثة و خمسون دولة من دول مختلفة و أعراق مختلفة، دول إسلامية مثل إيران، باكستان و سورية، دول ير إسلامية مثل أمريكا اللاتينية، روسيا الإتحادية، اليابان، فرنسا، يوغسلافيا. هؤلاء الممثلون لا يختلفون عن بعضهم باللغة و العادات فقط بل يختلفون عن بعضهم بلون البشرة أيضاً. لكن لأن البحث كان يتم عن مواضيع تنبع من الحضارة والمعارف الإسلامية لم يكن يشاهد أي اختلاف في نوع التفكير بين الأسود الأفريقي و الزنجي المالي و الأبيض الآسيوي. فالنظرة الإسلامية لدى الجميع واحدة كما كان الجميع يتفهمون القيم الإنسانية و الفكر الإنساني بنوع واحد. مع أنهم من حيث الفرق الجغرافي قد جاؤوا من آخر نقطة في الشرق و الغرب. إذا أخذنا سقوط بغداد مبدأ لتشرذم الشعوب الإسلامية فإن ذلك يعود لسبعمائة و خمسين عام، و إذا حسبنا استقلال إيران مرة ثانية فإنه إحدى عشر قرن ونصف و إذا نظرنا إلى سقوط الحكومة الأموية في الأندلس بالنسبة للمالك الغربية فهي حوالي عشرة قرون حيث الدول الإسلامية أو المسلمون الذين يعيشون في الدول غير الإسلامية ليس لديهم أي ارتباط من ناحية المنظمات السياسية والإدارية، بل إن هناك عوامل مختلفة وليدة البيئة و ظروف الزمان والمكان قد ظهرت في كل بلد و كان يجب أن تنسف تلك العوامل الوحدة الإسلامية ولكن كما قلنا و كما نرى فإن تلك الوحدة و على عكس مرور الزمن و على عكس مقتضى الاسباب والعلل لا تزال قائمة و السبب الأساسي في ذلك أن الظروف السياسية للحضارة الإسلامية ليست وليدة السعي الحكومي أو السياسة الواحدة لتزول مع سقوط تلك الحكومات والسياسات، بل إن الحكومات التي كانت تسعى لتستلهم من التعاليم الإسلامية الواسعة لتطابق نفسها مع هذه الحضارة.

المصادر:

1 – الحضارة الاسلامية في القرن الرابع، ج 1، ص 4 .

2 – وفيات الأعيان تحت ترجمه ابوغالب تمام ابن غالب.

3 – البيهقي، الدكتور فياض ص 556.

4 – فارسنامه، طبعة لسترنج ص 146 . 




المستعمل تعليقات